الأسرى الفلسطينيين بين محاولات العزل وفرض النسيان

لحظة الوضوح التي يحاول الاحتلال حجبها باستمرار، هي قدرة الفلسطينيين على إدراك مصائرهم، منذ العدوان الإسرائيلي على غزة عقب عملية "طوفان الأقصى"، يفرض الاحتلال على الفلسطينيين واقع التغييب المستمر، بحملات الاعتقال التعسفية، التي بلغت بعد عملية السابع من أكتوبر 7755  بحسب جمعية نادي الأسير الفلسطيني، فيما أكدت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية ارتفاع أعداد المعتقلين من قطاع غزة في السجون الإسرائيلية إلى 150% بالمقارنة بين نهاية عام 2023 وبداية عام 2024.

لتمتد هذه اللحظة المصيرية في حياة الفلسطينيين إلى داخل المعتقلات، في محاولة مستمرة لخلق زمنين منفصلين لا يمكن الدمج بينهما، خاصة بعد أن أغلق الاحتلال المعتقلات بوجه المنظمات الإنسانية وأبرزها اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي، لنشهد على زمن الأسرى داخل معتقلات الاحتلال، وزمن عائلاتهم الذين يشاهدون ويقرأون الأرقام الصادمة للممارسات الوحشية التي يتبعها الاحتلال بحق الأسرى والأسيرات، بازدياد ممارسة التعذيب، والعزل الإفرادي، والإهمال الطبي الممنهج، في محاولة لعزل الأسرى والأسيرات عن محيطهم.

واقع الفصل المتعمد للأزمنة، من خلال نزع الروابط بين الأسرى وعائلاتهم، فرض على الأهالي نضالاً مضاعفاً، لا يمكن تداركه أو فهم أبعاده إلا من خلال إدراك التجربة الحتمية الطويلة لعائلات الأسرى الذين خاضوا نضالاً طويلاً مع دولة الاحتلال، ليكون لدينا هذا الحوار الذي أجرته فارءه معاي، مع السيدة سناء سلامة زوجة الأسير وليد دقة، والسيدة رندة موسى زوجة الأسير الشهيد خضر عدنان، في محاولة لإعادة طرح سؤال النضال المشترك الذي يخوضه كلّ من الأسير وعائلته، من خلال تجربة الأسير وليد دقة، الذي يعتبر سادس أقدم أسير فلسطيني بعد 39 عاماً داخل المعتقل، بعد أن أتم أكثر من نصف عمره داخل سجون الاحتلال، والذي خاض مع زوجته نضالاً دام 12 عاماً ليسمح لهم بالإنجاب، قبل أن يتمكن من تحرير نطفة مخترقاً أزمنة الاحتلال بإنجاب ابنته ميلاد وليد دقة. والأسير خضر عدنان الذي خاض نضالاً بأمعائه الخاوية، ضد ممارسات الاحتلال التعسفية بحملات الاعتقال الاعتباطية والاعتقال الإداري، حيث خاض 6 إضرابات مفتوحة عن الطعام، بعد اعتقاله ما يقارب 13 مرة، ما مجموعه 8 سنوات من سنوات عمره الأربع والأربعين، والذي استشهد في 2 أيار/مايو 2023 في إضرابه السادس والأخير.

إن مسيرة النضال هي نفسها مسيرة المعرفة فهي مسيرة باردة يعتريها الشعور بالوحدة والخوف من المجهول، في حالة السجن كما في حالة الحصار قمة النضال أن تبقى قادراً على السؤال.

الأسير وليد دقة

بداية سناء، منذ مدة والاحتلال يفرض إجراءات تعسفية على الأسير وليد دقة، ما هي آخر الأخبار التي وصلتكم عن صحته؟!

كما يعلم الجميع لا يوجد أي تواصل مباشر مع وليد حتى الآن، شكل التواصل الوحيد مع وليد هو عبر المحامين، وما زال يعتبر من قبل مصلحة السجون الإسرائيلية ضمن الأسرى الممنوعين من الزيارة، منذ بداية العدوان على غزة، لم تتم زيارته سوى مرتين فقط خلال ستة أشهر، المرة الثانية كانت يوم أمس، بعد محاولات مكررة من الالتماسات والمحاكم، استطاعت المحامية نادية دقة من رؤيته.

وليد معنوياً قوي وصلب جداً، مازال يمتلك تلك الروح العظيمة كما عرفناه دائماً، ولكنه جسدياً للأسف في وضع صعب جداً، فهو يعاني من وضع صحي معقد جداً، بسبب ظروف السجن وظروف العزل التي يعانيها حالياً والتي من شأنها فقط أن تدهور وضعه الصحي .

إننا نشعر وكأننا في سباق مع الزمن، كل ساعة وكل يوم تشكل فرقاً كبيراً، إذا تم تحرير وليد في هذه الأيام والأسابيع سوف يتم فعل الكثير من أجله، ولكن حقاً لا نعلم إذا طالت مدة الاعتقال كم سيتمكن جسمه من الصمود.

أكبر الصعوبات الآن، هي الأمور العلاجية التي يجب أن يخضع لها، ومازال محروماً منها، الآن الأسير وليد بالإضافة لموضوع استئصال رئته اليمنى بكاملها تقريباً، لديه مشكلة بعضلة القلب، ويعاني من مرض السرطان، لديه وضع صحي صعب جداً ويحتاج لعناية خاصة، أي مستجد أو أي طارئ صحي على هذا الوضع الصحي سوف يؤدي إلى تعقيده تماماً، مثلاً يوجد حصوة في الكلى، ولا نعلم حتى الآن لماذا لم يتم إجراء عملية تفتيت الحصوة، كي لا تبدأ أعراض الفشل الكلوي.

خضتِ نضالاً طويلاً مع الأسير وليد دقة، برأيك ما الذي يحاول الاحتلال ضبطه في إجراءاته التعسفية ضد الأسرى الفلسطينيين منذ عملية "طوفان الأقصى"؟!

من أبرز مهمات مصلحة السجون الإسرائيلية اليوم هي عزل الأسرى تماماً عن العالم الخارجي، لتحطيم الروح المعنوية، والقضاء على التوازن النفسي لدى الأسرى، لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون بظروف عزل لفترات طويلة، هذا هو السلاح الأساسي والفوري الذي تقوم به مصلحة السجون.

بعد ذلك تتم الحرب الداخلية على الأسرى، اقتحام غرف الأسرى بالرصاص الحي، ومصادرة كل ما حصل عليه الأسرى عبر الإضرابات المتتالية التي راكمتها السنوات، في حالة وليد تمت مصادرة منجزات نضال أربعين عامًا من الحركة الأسيرة، التلفزيونات، الطعام، أدوات الطعام، القرطاسية. من غرفة وليد صودرت صورة ميلاد ابنتنا، الآن وليد لا يملك أي صورة لميلاد.

صمودك يعبر بشكل مباشر عن صمود وليد دقة داخل الأسر، كيف تصفين علاقة النضال هذه بين الأسير داخل المعتقل والخارج من قبل عائلته؟

من يمتلك اليقينَ أنه صاحب حق، يدافع عن أساسيات وجوده كإنسان يدافع عن كرامته وحريته.. وحتى آخر هذه المفردات التي يعرفها كل العالم، من الطبيعي أن يمتلك إيمانه الكامل بقوة الحق الذي يناضل من أجله، وفي نضالنا المستمر، لن نسمح للاحتلال بأخذ ما يريده منا، سوف نتمسك بحقنا وسوف ندافع عنه، وهذه قضية لن نتنازل عنها.

أتذكر جيداً مرحلة ما بعد ولادة ابنتنا ميلاد، وشعور أننا نكوّن عائلة،  أنا ووليد نحب بعضنا البعض، وتزوجنا، وحلمنا أن يكون لدينا طفل مثل أي عائلة، بعد ولادة ميلاد وكل الضجة التي حدثت بعد ولادة ميلاد، جعلتني أشعر وكأنني قمت بشيء عظيم!! مع أني داخلياً مدركة أن ما فعلته لم يكن عظيماً، لقد مارست حقاً طبيعياً مكفولاً بشكل كامل للقطط في شوارعنا، من هذه التجربة أدركت العلاقة وأدركت أن إصرارك على حقك في الوجود الطبيعي المنطقي، ولأنك فلسطيني سوف يتم تقديمك كبطل عظيم، شخصياً لن أتنازل عن فعل كل ما هو ممكن، لن نتنازل عن حقنا في الحرية وحق ميلاد أن تعيش مثل باقي الأطفال.

تجربة الأسر الطويلة التي يخوضها وليد، مرت بالكثير من الظروف الصعبة، وصحيح أن أصعبها ما يحدث الآن، ولكن سوف تمر، والمهم اليوم أن نحافظ على قوتنا وصمودنا وتوازننا في ما نمر به جميعاً كشعب من مآسي.

بعد كل هذا الانتظار وهذه السنوات والتجارب، من أين تستمدين القوة للاستمرار؟

دخل وليد اليوم عامه التاسع والثلاثين في الأسر، تعلمت منه الكثير، تعلمت منه معنى الصلابة والقوة، بدون الكثير من الشعارات الرنانة، كيف يكون الإنسان مبدعاً ومنتجاً، وأن يتبع باستمرار أساليبه في المواجهة. وليد بالنسبة لي إلهام كبير جداً، وهو يقول عني ذات الكلمات.

لا يستطيع الإنسان الصمود عن طريق البلاغة فقط، لا بد أن تكون مع الشخص الذي يمدك بالقوة، وأنا ووليد نكمل بعضنا البعض بهذا الجانب، وأنا متأكدة بأن لنا لقاء. الاحتلال يفعل كل شيء اليوم كي لا يغادر أبو ميلاد المعتقل ماشياً على قدميه، ولكن أنا متأكدة أنه سوف يغادر السجن ماشياً على قدميه، وأنا مؤمنة بأنه لن يخذلنا أبداً.

أخيراً من أكثر من يخذل عائلات الأسرى؟!

النسيان.

أن ننساهم، وأن نعتاد وجودهم في السجن.

النسيان يخذل عائلات الأسرى والأسرى، حتى لو كان من أقرب أفراد عائلاتهم، النسيان يخذل.

لقد كتب وليد عن هذه الفكرة وأسماها الكابوس، بعد أن حلم أنه التقى شباناً من بلدته وأخبرهم أنه وليد دقة، ولكنهم لم يتعرفوا عليه، يذكر لهم اسم والده وعنوان منزله، ليصر الشبان على أنهم يعرفون مكان المنزل والعائلة، ويذكرون له جميع أسماء إخوته دون أن يذكروا اسمه.

هذا فعلياً ما قد يخذل الأسير، لأن قوة الأسير بامتداده خارج السجن، وأكبر انتصار يمكن أن تحققه مصلحة السجون هي كسر الأسرى بالنسيان من خلال عزلهم عن علاقاتهم مع خارج السجن..

أبعث لكم بكلماتي هذه وقد ذاب شحمي ولحمي ونخر عظمي وضعفت قواي من سجني في الرملة الحبيبة الفلسطينية الأصيلة، وصيتي هذه لأهلي وأبنائي وزوجتي وشعبي.

وصية الأسير خضر عدنان قبل استشهاده

خاض الشهيد نضلاً طويلاً ضد الاحتلال، كنت معه خلال هذه التجربة الطويلة، ما أكثر اللحظات التي لا يمكنك نسيانها؟

أمضيت مع الشيخ خضر عدنان 17 عاماً عشر سنوات منها وهو داخل السجن، لا أستطيع تجاوز أو نسيان أي لحظة، ولكن صراحة اللحظات التي لا تنسى هي في الإضراب الأول عن الطعام الذي انتهى بالنصر، كان لها وقع كبير على أنفسنا، خاصة أنها كانت التجربة الأولى، كنت كزوجة خائفة من فقدانه، ليخوض بعدها خمسة إضرابات، وحتى الإضراب الأخير لم أتخيل أبداً أني سوف أفقده أبداً..

أول إضراب للشهيد خضر عدنان كان لمدة 12 يوماً في سجون السلطة الفلسطينية، قبل أيام من الإضراب الشهير للأمعاء الخاوية، بعد أن أصبح مطارداً من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وكان قد أخبرني أنه لو تم اعتقاله في فترة المطاردة سوف يقوم بالإضراب عن الطعام، وأنا كنت مؤمنة بكل خطوة يقوم بها، لأنه كان ملهماً بالنسبة لي، لذلك لم أتوقع في جميع اللحظات أنه لن ينتصر، حتى عندما اشتد الإضراب، واشتدت الأزمة كانت لحظات قاسية، أذكر عندما ذهبت لزيارته وتم اعتقالي والتحقيق معي من قبل الاحتلال، لكي أطلب من الشيخ خضر إنهاء إضرابه، وأنه سوف يخسر الكثير، وإخباره أنه لن يستطيع بعد الآن إنجاب الأطفال، لننجب بعد ذلك 7 من الأبناء.

برأيك ما الذي يحاول الاحتلال ضبطه في إجراءاته التعسفية ضد الأسرى الفلسطينيين منذ عملية "طوفان الأقصى"؟!

محاولة لكسر نفوس الناس، يمكنك أن تلاحظ أن أغلب القيادات الموجودة في الضفة اليوم تنحت جانبًا، خوفًا من الاعتقال، لأن الاعتقال في هذه الأيام يعتبر أصعب وقائما على الإهانة، وأكثر ما كان يخافه الشيخ خضر عدنان أن نصل إلى مرحلة من الهزيمة الذاتية، أن يشعر هذا المحتل أن سياساته مجدية، وأنه هو صاحب الحق.

اليوم نحن في مرحلة بحاجة لكل نفس حر، لكل إنسان يمكنه أن يحرك الشارع، بوجه ما يرتكبه الاحتلال، وكل ما يحاول فعله داخل السجون اليوم، وكل ما نراه ونسمعه من وحشية، ضد الأسرى والأسيرات، لهي محاولات لضبط الشارع وزرع الإحباط في نفوس الأهالي والقيادات، وهذا ما يريده الاحتلال: أن تستمر دائرة الخوف والقلق.

دائماً كان الشيخ خضر عدنان يقول: إنّ الاحتلال بأي لحظة يمكنه اعتقالنا، إن ناضلنا أو لم نناضل، فالأصل أن نناضل وكأننا كل يوم قد نعتقل. للحقيقة أنا جداً مستاءة من أن يكون هذا هو واقع الضفة، لماذا نطالب الدول العربية بالتحرك[1] لوقف العدوان، والضفة ساكنة، إذا كانت الضفة ساكنة أمام ما يحدث في غزة، إذن دورنا قادم، وسوف نكرر شعار وينك يا غزة يلا يلا.. يجب أن يكون هناك وقفة للضفة مشرفة أكثر من ذلك. 

في كل تحرك كان أولاد الشهيد خضر عدنان معك في تحركاتك كاملةً، عندما أعلنتِ اعتصاماً في دوار المنارة، وفي جملتك الأخيرة في تأبين الشهيد "احفظوا وجوه أبنائي"، ما الرسالة التي تحرصين عليها بحضور أولاد الشيخ دائماً؟

هي رسالتي ورسالة الشيخ خضر عدنان من قبلي؛ الخروج بأطفالنا الصغار، لنخبر جميع عائلات الأسرى أن يخرجوا جميعهم إلى الساحات، الكبير منهم والصغير، وإيصال رسالة بأننا أصحاب حق ولن نتنازل عنه، سوف نناضل في سبيله جيلاً بعد جيل. كنا نريد أن نقول ونحن نخرج مع أبنائنا إنهم إرثنا، ووسيلتنا القادمة لإنهاء هذا الاحتلال.

نعم لقد قلت في التأبين جملة "احفظوا وجوه أبنائي جيداً" لأخبر الاحتلال أن بيننا ثأراً لن ننساه، لذلك حرصت ألا يكون أبنائي بعيدين عن الحدث، عما يجري، عن نضال والدهم، عن آلام الناس، والضغوطات التي يفرضها الاحتلال.

أخيراً من أكثر من يخذل عائلات الأسرى؟!

عدم الوفاء.

عدم الوفاء يؤلم الأسير وعائلات الأسرى، أنا والشيخ استنفدنا جميع الوسائل مع جميع الجهات حتى أدركت اننا عندما نكون بحاجتهم لن نجدهم. [2] 

قبل يوم من استشهاد الشيخ خضر عدنان في سجن "عوفر"، طلبت من الجميع بعد خروجي من السجن ألا يردد أحد شعار (يا شهيد ارتاح ارتاح واحنا نواصل الكفاح)[3] ، لأني رأيت علامات الاستشهاد والرحيل واضحة على جسد وفي كلمات الشيخ، ولكن لم يتحرك أحد.


يشار الى ان هذا المقال أعد قبل استشهاد الأسير الراحل وليد دقة.

أنتجت هذه المادة بدعم من “الأكاديمية البديلة للصحافة العربية” التي تشرف عليها فبراير، شبكة المؤسسات الإعلامية العربية المستقلة وينشر بالتعاون مع “فارءه معاي - المنصة الإعلامية العربية المستقلة.

استخدام الصور بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

المعتصم خلف

كاتب صحفي فلسطيني سوري

شاركونا رأيكن.م