هي نكبةٌ مستمرة…

 النكبة، لا أعلم إن كان في هذه الكلمة متسعٌ لما تحمله من ألمٍ ومعاناة، هي ليست مأساة ألّمت بنا وانتهت بل هي كارثة متوارثة في وجدان كلِّ فلسطيني. لا أذكر المرة الأولى الّتي تعرفتُ فيها على هذا المصطلح لكنني لمسته في أحاديث جدّي عن قريته وأيام زمان، عن أشجار الزيتون والفلاحة، عن آبار القرية المتعددة، عن أعراسها البسيطة ومدرسته الّتي استوعبت الذكور فقط في ذلك الوقت. علقت أحاديث جدي حول قريته الصغيرة "أم الزينات" في ثنايا ذاكرتي، هذه الأحاديث الواضحة في ذاكرة الفلسطيني والغائبة عن مكانها المسلوب، وكأنّ أجدادنا يروون لنا بعض ما حملته الذاكرة كي لا يفقدوا البلاد مرّتين. 

أحدثت النكبة ندوبًا لم يردمها الزمن ولم ينسها القلب. تهجير، تطهير عرقي، إعدام جماعي وحالات اغتصاب، غُربة وفراق، هذا ما عاشه شعبنا عام 1948. حيث هُجّر سكّان ما يقارب 350 قرية، بعضهم أصبح لاجئًا في وطنه وبعضهم أصبح لاجئًا في الشتات.

الجيل الأول من النكبة

في مقابلة أجريتها مع منيرة أبو حميد من عكّا حول ذكرى النكبة تقول لي:

"خرجنا من ديارنا بسبب خوف والدتي علينا بعدما قصفوا غرفة النوم في بيتنا، أبي رفض الخروج قال أنّه يريد الموت هنا بين شجرات البستان ولا أن يسمع كلمة لاجئ. أسبوعان وستعودون هكذا قالوا لنا لكنّ الحقيقة أننا عدنا بعد عامين من لبنان، ذلك لأنّ والدي قدّم طلب لم الشمل ونجحنا بالرجوع إلا أخي الّذي كان عمره ثمانية عشر عامًا حينها. عدنا إلى البلاد ووجدنا البستان والبيت العائدين لنا في أيدي المستوطنين وعندما واجهناهم أجابوا أنّ هذا المنزل لهم".

"أصبحت ضيفة في وطني، لم نعد نملك ما كان لنا"

هذا ما قالته لي سلمى (اسم مستعار) الّتي هُجّرت من طبريا إلى الناصرة في الخامسة من عمرها. تصف لي سلمى ابنة الـ 81 عامًا مشاعرها وخوفها في النكبة وكأنّها البارحة، لكن هذه المشاعر لم تتغير، حيث تقول لي ابنتها إنّ الحرب الراهنة جعلت والدتها تستذكر أحداث النكبة مجدّدًا. 

لاجئو الشتات والنكبة

الفلسطينيون في الشتات يبثون للجميع أَن الأوطان تسير بأهلها أينما حلّوا، تراهم يطلقون أسماء مدن فلسطينية على أبنائهم وتحمل النساء منهم مفتاح العودة على صدورهن المتعطّشة للقاء الوطن والاجتماع به، يا ترى كيف يكون الاجتماع بالحبيبة بعد شوق استمر لعقود؟ تقول لين خندقجي (25 عام) وهي من الجيل الثالث للنكبة ودخلت البلاد مرة واحدة فقط:

"فلسطين في مخيلتي هي روح، أشعر أنها تتحدث معي وتناديني، هي أيضًا أمي التي أرتاح بوجودها. يستحيل أن أقول إنني زرتها، هي ليست زيارة فأنا لست ضيفة. دعيني أحدثك عن هذا الألم الّذي شعرت به عندما تركتها، كان أسوأ بمليون مرة من الحسرة التي كانت قبل دخولها".

أما عن اقتراب ذكرى النكبة فتقول:

"اقتراب النكبة لا يؤلمني لأنّ كل حياتنا هي ألم، نحنُ لم نكن بخير أبدًا وفي ظل الإبادة الّتي تحصل اليوم أشعر وكأنّ لا أهمية لذكرى النكبة".

خلال حديثي مع محمود الشهابي من الجيل الثاني للنكبة والذي يقطن اليوم في اليونان شعرتُ بالتقصير تجاه بلادي، لقد وصف لي لوبيا كأنّها دارهُ الّتي عاش فيها ذكريات عصيّة على النسيان، عندما علّقت على هذا الأمر فاضت إجابته بالكثير من الشوق والحنين، قائلًا:

"معظم فلسطينيي الشتات يعرفون البلاد جيّدا، حافظنا على الذاكرة الجمعية الّتي سمعناها من أهلنا، صراعنا هو صراع على الذكرى. فلسطين في ذاكرتنا كانت مبنية على الروايات وذاكرة الأهل، هذا ما جعلها حاضرة معنا في عقولنا ووجداننا، الفلسطيني عندما هُجّر بالقوة حمل معه ذاكرة فلسطين، حماها وقامت بحمايته".

عندما سألته عن مشاعره عند حلول ذكرى النكبة، أجابني:

"في ذكرى النكبة أشعر وكأن كل الّذي حدّثتك عنه حول حكاية اللجوء والشتات يثور في داخلي، هذه الحكاية الّتي تكرر. فالآن يُعاد مشهد النكبة، النكبة ليست الـ 48 فحسب، لقد تعرضنا لنكبات أخرى في حياتنا. أخذت النكبة أشكالًا متعددة كالّذي حدث عام 1967 وتدمير مخيم اليرموك الذي بدأ عام 2015، فعنه قالت لي والدتي "يا يما ما أحلاها النكبة عام 48 عا اللي بصير إسا". ما يحدث اليوم أيضًا تكرار للنكبة، الكثيرون من أهالي غزة لاجئون بالأساس وهُجّروا عام 1948، هم يريدون إكمال تهجير هذا الشعب إلى البلاد العربية أو أوروبا. إنّ النكبة تتكرر في حياتنا ولن نتخلّى عن ذاكرتنا، لقد جعلت ذكرى النكبة الوطن فينا أكثر حضورًا".

نكبة 2023

"لا داعي أن أشاهده، ما حدث يحدث اليوم"

كانت هذه إجابة شافية من صديقتي حينما تفاجأت منها أنّها لم تشاهد المسلسل الدرامي "التغريبة الفلسطينية" الّذي جسّد النكبة عام 1948. إجابتها تجسد واقعنا، فكلّ ما حلّ بشعبنا عام النكبة يحصل اليوم في غزة، الفرق الوحيد أن هذه الإبادة على مرأى ومسمع العالم أجمع.

عبد العزيز عبد الله أبو لحية (95 عاما) عاش نكبة ال 48 وهُجّر قسرًا من السبع إلى الأردن، ثم إلى القطاع. يعيش اليوم مع عائلته في غرفة واحدة صمدت بعد قصف منزله في شمال القطاع. يقول عبد العزيز:

"كان وضعي في نكبة الـ 48 أفضل من وضعي اليوم، نحن 20 فردًا ونعيش في غرفة واحدة، كما استشهدت زوجة ابني. لقد عشت خمس حروب، ما يحدث اليوم ليس حربًا بل محرقة، يقتلون الشعب ويدمرون المنازل، يريدون أن يحرقوا الشعب ليهاجر من فلسطين. فرق بين الأرض والسماء بين ما يحصل اليوم وبين ما حصل في الـ 48، اليوم يضعونك تحت الردم ولا أحد يسأل عنك من الدول العربية."

هل يمكنني القول نكبةٌ مستمرة وليست ذكرى؟

قد أبدو أنانية إن قلتُ إنّني لن أشعر بالأسى في ذكرى النكبة، ربما ليست ذكرى، ها هي تحدث في هذه اللحظات الّتي أكتب فيها كلماتي هذه. هي نكبة مستمرة، ما دام في كل يوم نعيشه يتوالى ارتقاء الشهداء ويُعتقل الشباب وتصبح الأمهات ثكالى ويُيتّم الأطفال أو تُبتر أرجلهم بمعنى أن لا طفولة من حقهم. نعم هي نكبة مستمرة ما دامت حريّتنا مسلوبة ونصف شعبنا لا يمكنه رؤية البحر، فعن أيّ ذكرى تتحدّثون؟ …


الصورة: للمصوّر - الصحفي معتز عزايزة.

ملاك عروق

حاصلة على لقب أول في مجال الإعلام والعلوم السياسية. ناشطة اجتماعية وسياسية. مهتمة بإنتاج الوثائقيات وكتابة المقالات

شاركونا رأيكن.م